الشيخ راغب حرب | جهاده ضد الاحتلال الاسرائيلي
في بداية الثمانينات انتشرت دبابات الجيش الإسرائيلي في جميع قرى الجنوب، وخلَت البيوت من شبّانها، فمنهم من التحق بركب المجاهدين وصار ملاحقاً في كل زاوية، ومنهم من قُتل بتهمة "التخريب"، وآخرون زُجّوا في معتقل أنصار... كان أهل الجنوب في تلك الآونة يعيشون مرارة الحياة، وتتفاوت آراؤهم بين مؤيد للمقاومة، ومستسلم لأمرٍ واقع (هكذا تريدُ الدول الكبرى)، (العينُ لا تقاوم المخرز).. إلى أن وصل الشيخ راغب حرب من الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبدأ يبثُّ أفكاره الخمينية من على منبر مسجد جبشيت القديم إلى كل بيوتات الجنوب...
لم يبقَ منزل إلا وتأثَّر بمواقف الشيخ راغب، وصار الشبّان والعجائز والنسوة والأطفال يتسابقون كل نهار جمعة لسماع خطبته وجنود الجيش الصهيوني ينتشرون على مفارق الطرقات... كان الناسُ، كل الناس، يشعرون أنه والدهم، وإن كانوا يكبرونه سناً، فالأبوة لا تقتصر على عملية التوالد، الأبوة صفحة واسعة من صفحات الحياة... الشيخ يخطب والناس تسمع وتعي، وشارع المؤيدين لمقاومة الاحتلال يمتدُّ إلى أقصى الجنوب... الإسرائيليون يحاصرون البيوت ويهتكون الحرمات ويقتلون الرجال، والخوف يموت في زوايا البيوت لتحيا الثورة من نبض الأحزان...
كان الحاج بدران من تلامذة الشيخ راغب، يتعلّم منه ديناً جديداً، ديناً محمدياً أصيلاً، ويشتعلُ الشوق في قلبه الفتي كلّما سمع شفاه الشيخ تلهجُ بذكر الإمام الخميني وتعاليمه، وتابع معه التأسيس لمقاومة إسلامية واعية ترفض الذل والهوان وتعشق الجهاد والشهادة مع مجموعة من الأخوة المؤمنين والعلماء المجاهدين... "الموقف سلاح والمصافحة اعتراف".. كلمة كانت من أقوى الصفعات التي تلّقاها أحد كبار ضباط الجيش الصهيوني من الشيخ راغب، وحفظها الناس دستوراً لحياة، فكل همسة يتلفظ بها الشيخ تنتقل بسرعة البرق ليحفظها تلاميذه ومحبوه في كل مكان... وقف الحاج بدران إلى جانب الشيخ راغب في أغلب المواقف العصيبة، وكان معه أيضاً في بناء مبرّة السيدة زينب عليها السلام في جبشيت، وكلما نظر الحاج بدران إلى الأيتام كيف يتجمعون حول الشيخ وهو يلاعبهم ويلاطفهم، وكيف يحمل أحد الأيتام عمامته البيضاء ليلبسها يمتلئ قلبه بهواء مفعم بالسعادة والحرية. شارك الحاج بدران في تخطيط وتنفيذ العمليات الجهادية للمقاومة الإسلامية ضد الجيش الصهيوني، ولم يتخلَّ عن مرافقة الشيخ، إلا عندما قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقاله ذات ليلة وزجه في معتقل "أنصار" مع مجموعة من رفاقه المجاهدين، ومن خلف ذلك السياج كان ينظر بعين قلبه إلى الخارج وهو يدري أن القتل والأسر والدمار لن يزيدوا الناس إلا إصراراً على مواجهتهم، ولو زجّوا كل شباب الجنوب، فإن الشيخ راغب سيُجيِّش عليهم النسوة والأطفال، ولن يتركهم مهما نكّلوا به...
كانت الأيام تمضي عليه في المعتقل وبداخله يزأر الغضبُ وتتململ الرغبات في قتل الصهاينة، إلى أن قامت قوات الاحتلال باعتقال الشيخ راغب من منزله في جبشيت وجيء به مكبَّلاً إلى المعتقل.. عندما رآه الحاج بدران، ابتسم ابتسامة عريضة وهو يعلم مدى حماقتهم باعتقال الشيخ، فالإسرائيليون يظنّون أنهم بوضع الأصفاد على يدي الشيخ سيشلُّون حركته، بينما الشوارع الآن تغصُّ بالمعتصمين والمطالبين بالإفراج عنه، وفعلاً في الليلة ذاتها بدأ الاعتصام في حسينية جبشيت والذي امتد لأسبوعين، كان خلالهما يُخضع أحد الضباط الصهاينة الشيخ للاستجواب.. وعندما يخرج الشيخ من الاستجواب كان يلتقي بالاخوة ويشدُّ من أزرهم، وقتاً طويلاً يحادثُ الحاج بدران عن الخطوات المقبلة في العمل الجهادي، إلى أن أُرغم الإسرائيليون على الإفراج عن الشيخ راغب بعد أن ضيّق الأهالي الخناق عليهم.. مضت أيام قليلة، وفي السابع عشر من شهر شباط، كان الحاج بدران يقفُ في ساحة معتقل أنصار الضيقة، عندما رأى الضابط الصهيوني يقترب منه ويقول له بسخرية: "صاحبك الشيخ.. قتلناه البارحة"!
شخصت عينا الحاج بدران نحو السماء وقد لمعت فيهما بروق التحدي، وانهمر مطرٌ غزيرٌ وهو ينظر بكل استهزاءٍ إلى الضابط وهو يتمتم (لقد فتحتم عليكم باب جهنم).. وابتسمت عيناه وقد لاح خيط ضعيفٌ من وهج الشمس لتلفح وجهه ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾.