الشيخ عيسى قاسم | كوننا إلى متى؟ وما الغاية من هذا الكون العظيم؟
آيات القرآن الكريم تعطي جزمًا بأنّ للكون الذي لا تمثّل أرضنا ومن عليها وما عليها إلّا ما يشبه هباءة في إطاره الفسيح الذي لا يملك البشر وما أوتيه الإنسان من علم، وما وصلت القدرة عنده على استكشاف الآفاق والمديات البعيدة لها وما في الكون من عوالم وفضاءات شاسعة تقديرًا من السعة المذهلة والامتداد المُعيي لها إلّا واكتشف ما هو أبعد من ذلك مما يزيد في ذهوله، واستصغاره لما عليه الأرض من ضآلة أمام تلك السعة المتجددة في علم الإنسان، والامتداد المتصل المكتشف من جديد… آيات القرآن الكريم تعطي جزمًا بأن لهذا الكون المذهل العجيب المبني بإحكام نهايةً زمنيةً محدّدة قد وضعها خالق الكون نفسُه، ولا يملك أحد على الإطلاق أن يتقدّم بلحظتها أو يتأخر بها.
نهاية تتحدث عنها الآيات الكريمة الكثيرة من مثل هذه الآيات {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[1].
{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[2].
{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا}[3].[4].
وإذا كان الكون يسير إلى نهاية بنيته القائمة، وسيؤول إلى أن تكون السماوات غير السماوات، والأرض غير الأرض فلماذا قيام هذه السماوات، وهذه الأرض، ولماذا هذا الإنسان بكلّ أجياله السابقة واللاحقة في تدفّق دائم على مدى قرون متطاولة ليبلغ في أعدادها المليارات التي تضيق عنها الأرض لولا رحيلها بصورة متتالية إلى عالم القبور، ولماذا هذا العقل النافذ البعيد المدى عند الإنسان، وعبوره حدود هذه الحياة وكل الكون المادي؟ ولماذا هذا الشعور الغزير الأصيل في بناء الإنسان وصميم كيانه النفسي إلى الخلود، وهو أمر لا تحقّق له في هذا الحياة؟ ولماذا هذا التعلّق عند الإنسان بالحياة السعيدة التي لا يشوبها شقاء في بُعدِ من أبعادها، وهو الأمر المستحيل في عالم دنياه وكل مدة هذه الحياة؟ ولماذا هذا التطلّع العميق الثابت في داخل الإنسان بأن يُنصف من ظالمه، وأن يعيش حياةً لا ظلم فيها ولا هوان ولا إذلال ؛ الشيء الذي لا توفُّر عليه بالمستوى المطلوب لأحد في إطار الحياة الدنيوية وما تتسع طبيعتها له؟ ولماذا هذا الشعور عنده بأن من استرجع منه حقه الذي سلبه إيّاه لم يظلمه، وأن من اقتصّ بما يساوي جريمته في حقّه لم يتجنّ عليه وإن آلمه اقتصاصه منه؟
ولماذ الشعور عند الغاصب حقّ الغير، والمعتدي بأذاه، والمتسبب في شقائه بتأنيب الضمير قبل أن أن يموت ضميره بكثرة الظلم والتعدي والآثام، وبأنه أهل للعقوبة؟ ولماذا هذا الإيمان بالغيب في كلّ الأمم، وفي كل الأجيال والمكان والزمان قبل تدخّل التربية في صناعة قناعات ومشاعر وأفكار الإنسان؟
وهل هذه الفراغات، وهذا التخلّف عما يتطلّع إليه الإنسان، وعمّا هو مرتكز في نفسه من وجوب الاقتصاص من الظالم، والانتصاف للمظلوم هل ينسجم هذا كله مع ما عليه محدودية الحياة، ومع ما عليه عدم قدرة هذه الحياة على تلبية هذه التطلعات وهذه الآمال وهذه المشاعر وهذه الأفكار العميقة الثابتة الأصيلة؟
وهل هذا منسجم مع كون عريض عظيم إنما وُجِد لينتهي، وبُني ليُهدم، وأن يكون الهدف من قيامه السقوط، ومن بنائه الهدمَ والانهدام؟! وبنهايته وانهدامه تنتهي كل قصته وقصّة حياة الإنسان بفكره العابر للزمان والمكان والمحدود، وشعوره البعيد من كل آفاق حياته الدنيوية، وتطلّعه الذي لا يقف عند حدود ما تُطيقه من سعادة، ومن كل امتداد تُفرض له نهاية من امتدادات الحياة؟[5]
وهل تنسجم خاتمة الموت الأبدي للإنسان من غير أن يلقى ثواب إحسانه، أو يواجه عقوبة سيّئات تراكمت عليه قبل موت وبعد موت وهو يدرك في حياته انسجامه مع ذاته حال الحسنة، ومفارقته لها قبل اشتداد تلوّثها حال سيّئته، وأنّ من حق إحسانه أن يُقابَل بالإحسان، ومن شأن سيئته أن تقابَل بمثلها حسب محكمة ضميره في أصله[6].
وهل تنسجم هذه الخاتمة المأساوية التافهة للكون كلّه، وللسماء والأرض والإنسان ما يشهد به البناء الكوني وكلّ ما في السماء والأرض وكيان الإنسان من دقّة الصنع، وروعة التكوين، والحكمة وراء كلّ ذرّة، وكلّ وزن، وكلّ معادلة، وكل علاقة سببية ومسبَّبية، وكل مقدمة ونتيجة، وما يكشف ذلك عنه من الحياة والقدرة والعلم والإرادة الحكيمة المطلقة؟![7].
الكون وكل ما في الكون لا يتحدّث عن حي وراء صنعه غنيّ بالحياة ذاتا حياة كاملة مطلقة هي أصل كل مستويات الحياة لكل من أُعطي الحياة فحسب[8]. وإنما يتحدث مع ذلك عن علم وقدرة لا حدود لهما وعن إرادة كريمة مطلقة، وحكمة ودقّة، ورحمة ولطف لا يُجارى وما من شيء له من ذلك ما لله تبارك وتعالى، ولا نصيب لأحد منه إلا من عطاء الله وفيضه الكريم.
ويتحدّث الكون بما يغنى به من دلائل العلم، والإرادة والحكمة، ودقّة الصنع والتصميم والهادفية التي لا تخلف في كبير أو صغير منه عنها… يتحدث عن غاية تنسجم مع هذا كلّه؛ هي حياةٌ تعقب هذه الحياة وتلقى فيها كل نفس ما عملت من خير أو شر في دنياها، لتخلد نفوس في جنّة النعيم الأبدي، وتخلد أخرى في النّار الحريق والعذاب المقيم بما قصّرت وكسبت يدها من إثم.
وكلّ متجاهل لهذا الأمر لابد أن ينتهي تجاهله، وكل متغافل عنه سيلقى غِبَّ تغافله، ومن عاند واجه أشدّ دركات الخسارة، وأقسى مراتب الندم.
ومواجهة المصير ليست بالشيء البعيد. أعاننا الله على يوم الرحيل من هذه الحياة.
اللهم ما كلّفتنا به من عقيدة إلّا وهديت إليها، وأقمت البرهان الواضح عليها ولكن لا غنى لقلب بكل الآيات عن دوام هدايتك، ولا إبصار منها للحقّ بلا توفيقك، ولا قبول لها به مع خذلانك، فأعذنا من الخذلان، ولا تؤاخذنا بالآثام، ولا تجعل لنا إنكارًا للحقّ، ولا استكبارًا عليه، ولا تلكؤًا عنه، ولا استثقالًا لما اقتضاه يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}[9].
[1]– الانفطار: 1-4.[2]– الانشقاق:1-5.
[3]– الواقعة: 4-6.
[4]– هذه نماذج من آيات كثيرة تتحدّث عن انتهاء هذا البناء الهائل للكون العظيم المصمّم بدقّة فائقة لا يبلغ العقل لها مدى ولا تصوّرا.
[5]– الإنسان لا يقف تطلّعه، ولا يقف امتداد آماله، ولا تنتهي نظرته ولو امتدّ عمر الزمن أضعاف ما عليه ولكن بقي محدودا. لو امتد العمر إلى آلاف السنين، وإلى ملايين السنين وكانت الحياة هي هذه الحياة ما كان ذلك يُشبع تطلّع الإنسان وأمله وما عليه توجّه فطرته.
[6]– أنا وإن كنت لا أحبّ أذى العقوبة، ولا أتمنى لنفسي أن أُعاقب، لكن أؤمن في داخلي ما دام عندي صحوة ضمير أن من حقّ الآخر أن يقتصّ مني بمثل ما جنيته عليه. هذا موجود في ضميري وإن كانت نفسي تنفر من أن أعاقَب أو أؤاخَذ بمثل ما أجرمت.
[7]– أترى أن يقبل العقل، أن يقبل الوجدان أن تكون الوريقة من أيّ شجرة تحمل أسرارا علمية دقيقة وتصميما دقيقا وغاية حكيمة، وأن كل ذرة من ذرات الكون، وكل جزئية، وكل عنصر، وكل خليّة كلّ ذلك هادف، وكل ذلك عن قصد، وقصد سليم حكيم دقيق، أما الكون بمجموعه فيبُخلق عبثا؟! أترى ذلك، وأن يكون هذا الكون كلّه بلا غاية، وأنه إنما بُني لينهدم وتنتهي كلّ قصته؟! أيقبل عقل هذا؟!
[8]– حديث الكون كل حديثه أن هناك حيّا غنيّا قديرا هو الذي أوجد هذا الكون بشهادة هذا التصميم العظيم، وهذا الخلق الهائل؟! أم للكون شهادة أخرى وأن ذلك الحي الحكيم القادر العلي العظيم حكيم كل الحكمة، هادف كل الهادفية؟!
[9]– سورة التوحيد.
اقرا ايضا في شبكة عشق الروحية
الامام الخامنئي- شباب حزب الله يتألّقون كالشمس وهم مبعث فخر للعالم الإسلامي
الشيخ عيسى قاسم - سيرة حياتهالشيخ عيسى قاسم- اضاءات قرآنيهالسيد حسن نصر الله -وصايا السيد نصر الله للشباب المؤمنالامام الخميني - حياة الامام